المفقّع والشيشة- حكاية عودة وسفر وجلسة حضران
المؤلف: علي بن محمد الرباعي10.08.2025

عاد "المفقّع" من رحلته المُضنية الطويلة، وجلس باطمئنان بالقرب من العتبة، وجلست والدته بجانبه بابتهاج، ففتح الحقيبة المعدنية على وهج نهار ربيعي مشرق، ونادت والدته على جاراتها بصوت عالٍ؛ وأوصتهن بالحضور مُسرعات، رغبةً منها في التباهي بما أحضره ولدها البكر من نفائس وهدايا، وأخرج خريطة ورقية مُزينة، تحتوي على حلوى الحمص وحلاوة حمصية مُلونة بألوان زاهية، وطلب منها توزيعها على الأولاد والبنات الصغار بفرح، ثم أخرج علبة كرتونية صغيرة، ابتهجت بها الأم سرورًا، وهمّت بتناولها بفضول، فقال بلكنته المُصطنعة الغريبة: «يا أمي، اتركيها جانبًا، هذه ورقة اللعب، من أجل السهرة مع البشكة»، لم تفهم الأم شيئًا من كلامه والتزمت الصمت باستغراب، ثم أخرج علبة دائرية الشكل، تحتوي على عجينة سوداء داكنة؟ سألته الوالدة بفضول: «ما هذا يا ولدي؟»، فأجابها: «هذا جُراك الشيشة، يُعدّل المزاج، ويُعطّر الأنفاس برائحة زكية، ويُنسيني الهموم والأحزان»، وعلّقت الأم بدهشة: «الله خالقنا وخالقه».
ثم أخرج "الليّ" الأنبوبة المُغطّى بغطاء قماشيّ لامع وبرّاق، لم تسأله هذه المرة؛ بل سبق سؤالها بقوله المتباهي: «هذا حبل الكيف يا ست الحبايب»، فسألته بتعجب: «ما معنى ست الحبايب؟»، فبدأ يشرح لها عن أغنية شهيرة لمطربة مصرية معروفة، قالت بتهكم: «عساها تصاب بالمرض في ركبتيها»، وعلّقت بحذر: «كفاني الله شرّ أي مكروه في مصر، لا أقترب من عتبة بابي». سألته بفضول عن آنية مُذهّبة تلمع ببريق، قائلة: «هذه كأس مُذهّبة لشرب القهوة؟»؛ فضحك باستهزاء وقال: «الله يهديك يا أغلى امرأة في الدنيا كلها، هذه شيشة لتعمير الرأس وتنقية المزاج»، قالت بتعجب: «يا مثبت العقول، ثبتنا بعقولنا!».
تجرأت وسألت بخوف: «هل كسبت مالًا وفيرًا في سفرتك، وجئت بالمال الوفير والخير الكثير؟»، فمال برأسه على كتفها بحزن وانخرط في شهقة بكاء غزيرة، وهي تسمّي عليه بذكر الله، وتحاول مواساته بكلمات طيبة، بالكاد استعاد أنفاسه ومسح خشمه بطرف عمامته المُزخرفة، وقال بندم: «ضحك عليّ الأجانب الذين كنت أعمل لديهم، قالوا سيزوجونني ابنتهم الجميلة (قهرمان)، وأرهقوني بالعمل الشاق، وفي النهاية قالوا: أمك عليها ديون كثيرة»، فعلّقت بحسرة: «الله يسدّ نفوسهم الشريرة ويحرمهم من كل معروف كما حرموك من الزواج (قهرمان)»، فعاد يضحك بقوة ويقول: «يا أمي (قهرمان) يا أمي، ابنة وجهها كبياض زبدة الحليب الصافي، وريقها أحلى من طعم العسل المصفى»، فقاطعته بغضب شديد: «وكيف عرفت طعم ريقها يا قليل الأدب، وأنت لم ترها من قبل؟»، فأجابها بتفسير: «ريقها يعني كلامها الجميل.. أقوالها يا والدتي، أين ذهب تفكيرك؟ أنا تربيتك الحسنة؛ لا يصدر مني أي خطأ، ولا أتبول في فراشي كما كنت توصيني عندما كنت صغيرًا»، فأخذت كفّه وقبّلتها بحنان وقالت: «سيغنيك الله عن العمل لدى الأجانب، سيكفيك خالك أبو متاكي»، نظر إليها بدهشة وفتح عينيه على اتساعهما وقال: «أرجوك يا أمي يا حلوة اللبن»؛ فصححت له قائلة بلطف: «حلوة اللبن»، فقال بتعجب: «ألم يكن حليبًا قبل أن يتحول إلى لبن؟»، قالت بتسليم: «صدقت فيما تقول»، فقال بقلق: «هل تقصدين أنك ستزوجينني ابنة أخيك متاكي؟»، فعلّقت بسخرية: «بماذا ستتزوجها، بقملك أم بشيشتك؟»؛ وابتدأت في إلقاء قصيدة شعبية ارتجالية بلهجة بدوية أصيلة: «سرى ليلي سرى ليلي ألا يا شيشة الحضران، سرى ليلي سرى ليلي تكركر والبلا فيها، عسى من لامني يلقص ويلقى حيّة الديبان، ثمان سنين لا تبرا ولا يعرف مداويها»، قال بإعجاب: «صح لسانك»، قالت بتوبيخ: «لسانك؛ الله يقوّم لسانك المعوج».
أطلقت القرية لقب (المفقّع) على الضيف العائد من السفر بسبب كثرة كلامه غير المفيد، فاستشار شقيقه الأكبر (المرقّع) الفقيه المعروف؛ وقال بقلق: «يا فقيهنا، أخي عاد من مكة ومعه شيشة وأشياء غريبة؛ وأخشى أن يجمع الشباب الطائش، وينشر روايات لا نعرف صدقها من كذبها»، فقال الفقيه بحكمة: «هل تريد كلامًا واضحًا وحاسمًا أم كلامًا لينًا؟» قال بتفكير: «أريد الكلام الذي يحمل خلاصة الأمور»؛ فقال بنصيحة: «أخوك يبدو بصحة جيدة؛ وما عليك إلا أن تجعله قدوة حسنة للشباب؛ ليقوم بتربيتهم، ويعيد لكم هيبتكم المفقودة»، فعلّق بامتنان: «أحسنت القول»، ودسّ في كفّه عشرين ريالًا، لم يلتفت إليها ووضعها في جيبه على الفور، وقال بثقة: «إذا وقعت مشكلة، فليس لك إلا من يخرجك منها».
طلبت الأم من زوجة أخيها أن ترسل متاكي، لتلقي نظرة على ابن عمتها العائد من السفر، ورغبت في الحديث معها، لكن متاكي حلفت بأنها لن تطأ عتبة بابهم، فقالت أمها بإقناع: «اذهبي إلى ابن عمتك لوقت قصير، ودعيه يراك قليلًا، ولن يضرك ذلك»، ولإغرائها أضافت: «لقد عاد من مكة بالخوخ والرمان اللذيذ»، فوافقت على مضض.
رآها المفقّع، وتغير وجهه بامتعاض، وطلب من والدته إعطائه الإبريق، ليغيّر ماء الشيشة، فحزنت المسكينة وغادرت المكان.
عاتبته أمه بحزن؛ وذكّرته بالمثل الشعبي الذي يقول «ما يبني في الديرة إلا حصاها»، قال بعدم اهتمام: «تركت حمام الحرم، وجئت إلى الحصى، والله لو أعرف أنها ستجلب لي مصلية جمعة، لكنا تخلصنا منها، وانسِ الموضوع برمته»، سألته بتعجب: «ما الذي ينقصها، جمالها يقطر؟»، فقال باستغفار: «أستغفر الله»؛ فانفعلت وقالت: «ألا تخجل من التحديق في ظهرها النحيف؟»
تولاه المرقّع الفقيه كل يوم بتحريضه على شخص ما، فاشتعلت الفتنة؛ وجاء الفقيه إلى المفقّع وقال: «أخوك مُصاب بمس من الجن، الله يهدي من ضل؛ يقودك كالبهيمة، وأنت من أعيان جماعتك؛ مكانك لا يخلو من الزوار، وجمر شيشتك لا ينطفئ»، فقال بتأثر: «صدقت يا إمامنا الطيب، والعلاج عندي»، ومدّ له "الليّ"، وقال: «خذ لك جرعة تعدّل مزاجك المتعكر».
اشتد الخلاف، وظهرت العيوب، ويا دافع البلاء، كادوا أن يفتكوا ببعضهم البعض؛ وأقبل الخال ليصلح بين الأخوين المتنازعين؛ فتحاربوا به وتسببوا له بالأذى؛ وقال المفقّع بحدة: «يا خال، كلامك يشبه كلام النساء، وأنا وأخي سنتصالح مهما طال الزمن، وابتعد عن طريقنا، وإلا سأجعلك أسوأ حالًا»، التفت الخال إلى أخته بغضب وقال: «هل ستردين على ولدك أم ستتركينا هكذا؟»، فقال المفقّع بازدراء: «يا خال، اترك التمسكن، من الذي دعاك لتشريفنا في هذا الصباح الباكر؟»، فقال الخال بغضب: «لقد بحثت عن مكانتي ووجدتها، ومن حضر بدون دعوة سيجلس بدون احترام».
ثم أخرج "الليّ" الأنبوبة المُغطّى بغطاء قماشيّ لامع وبرّاق، لم تسأله هذه المرة؛ بل سبق سؤالها بقوله المتباهي: «هذا حبل الكيف يا ست الحبايب»، فسألته بتعجب: «ما معنى ست الحبايب؟»، فبدأ يشرح لها عن أغنية شهيرة لمطربة مصرية معروفة، قالت بتهكم: «عساها تصاب بالمرض في ركبتيها»، وعلّقت بحذر: «كفاني الله شرّ أي مكروه في مصر، لا أقترب من عتبة بابي». سألته بفضول عن آنية مُذهّبة تلمع ببريق، قائلة: «هذه كأس مُذهّبة لشرب القهوة؟»؛ فضحك باستهزاء وقال: «الله يهديك يا أغلى امرأة في الدنيا كلها، هذه شيشة لتعمير الرأس وتنقية المزاج»، قالت بتعجب: «يا مثبت العقول، ثبتنا بعقولنا!».
تجرأت وسألت بخوف: «هل كسبت مالًا وفيرًا في سفرتك، وجئت بالمال الوفير والخير الكثير؟»، فمال برأسه على كتفها بحزن وانخرط في شهقة بكاء غزيرة، وهي تسمّي عليه بذكر الله، وتحاول مواساته بكلمات طيبة، بالكاد استعاد أنفاسه ومسح خشمه بطرف عمامته المُزخرفة، وقال بندم: «ضحك عليّ الأجانب الذين كنت أعمل لديهم، قالوا سيزوجونني ابنتهم الجميلة (قهرمان)، وأرهقوني بالعمل الشاق، وفي النهاية قالوا: أمك عليها ديون كثيرة»، فعلّقت بحسرة: «الله يسدّ نفوسهم الشريرة ويحرمهم من كل معروف كما حرموك من الزواج (قهرمان)»، فعاد يضحك بقوة ويقول: «يا أمي (قهرمان) يا أمي، ابنة وجهها كبياض زبدة الحليب الصافي، وريقها أحلى من طعم العسل المصفى»، فقاطعته بغضب شديد: «وكيف عرفت طعم ريقها يا قليل الأدب، وأنت لم ترها من قبل؟»، فأجابها بتفسير: «ريقها يعني كلامها الجميل.. أقوالها يا والدتي، أين ذهب تفكيرك؟ أنا تربيتك الحسنة؛ لا يصدر مني أي خطأ، ولا أتبول في فراشي كما كنت توصيني عندما كنت صغيرًا»، فأخذت كفّه وقبّلتها بحنان وقالت: «سيغنيك الله عن العمل لدى الأجانب، سيكفيك خالك أبو متاكي»، نظر إليها بدهشة وفتح عينيه على اتساعهما وقال: «أرجوك يا أمي يا حلوة اللبن»؛ فصححت له قائلة بلطف: «حلوة اللبن»، فقال بتعجب: «ألم يكن حليبًا قبل أن يتحول إلى لبن؟»، قالت بتسليم: «صدقت فيما تقول»، فقال بقلق: «هل تقصدين أنك ستزوجينني ابنة أخيك متاكي؟»، فعلّقت بسخرية: «بماذا ستتزوجها، بقملك أم بشيشتك؟»؛ وابتدأت في إلقاء قصيدة شعبية ارتجالية بلهجة بدوية أصيلة: «سرى ليلي سرى ليلي ألا يا شيشة الحضران، سرى ليلي سرى ليلي تكركر والبلا فيها، عسى من لامني يلقص ويلقى حيّة الديبان، ثمان سنين لا تبرا ولا يعرف مداويها»، قال بإعجاب: «صح لسانك»، قالت بتوبيخ: «لسانك؛ الله يقوّم لسانك المعوج».
أطلقت القرية لقب (المفقّع) على الضيف العائد من السفر بسبب كثرة كلامه غير المفيد، فاستشار شقيقه الأكبر (المرقّع) الفقيه المعروف؛ وقال بقلق: «يا فقيهنا، أخي عاد من مكة ومعه شيشة وأشياء غريبة؛ وأخشى أن يجمع الشباب الطائش، وينشر روايات لا نعرف صدقها من كذبها»، فقال الفقيه بحكمة: «هل تريد كلامًا واضحًا وحاسمًا أم كلامًا لينًا؟» قال بتفكير: «أريد الكلام الذي يحمل خلاصة الأمور»؛ فقال بنصيحة: «أخوك يبدو بصحة جيدة؛ وما عليك إلا أن تجعله قدوة حسنة للشباب؛ ليقوم بتربيتهم، ويعيد لكم هيبتكم المفقودة»، فعلّق بامتنان: «أحسنت القول»، ودسّ في كفّه عشرين ريالًا، لم يلتفت إليها ووضعها في جيبه على الفور، وقال بثقة: «إذا وقعت مشكلة، فليس لك إلا من يخرجك منها».
طلبت الأم من زوجة أخيها أن ترسل متاكي، لتلقي نظرة على ابن عمتها العائد من السفر، ورغبت في الحديث معها، لكن متاكي حلفت بأنها لن تطأ عتبة بابهم، فقالت أمها بإقناع: «اذهبي إلى ابن عمتك لوقت قصير، ودعيه يراك قليلًا، ولن يضرك ذلك»، ولإغرائها أضافت: «لقد عاد من مكة بالخوخ والرمان اللذيذ»، فوافقت على مضض.
رآها المفقّع، وتغير وجهه بامتعاض، وطلب من والدته إعطائه الإبريق، ليغيّر ماء الشيشة، فحزنت المسكينة وغادرت المكان.
عاتبته أمه بحزن؛ وذكّرته بالمثل الشعبي الذي يقول «ما يبني في الديرة إلا حصاها»، قال بعدم اهتمام: «تركت حمام الحرم، وجئت إلى الحصى، والله لو أعرف أنها ستجلب لي مصلية جمعة، لكنا تخلصنا منها، وانسِ الموضوع برمته»، سألته بتعجب: «ما الذي ينقصها، جمالها يقطر؟»، فقال باستغفار: «أستغفر الله»؛ فانفعلت وقالت: «ألا تخجل من التحديق في ظهرها النحيف؟»
تولاه المرقّع الفقيه كل يوم بتحريضه على شخص ما، فاشتعلت الفتنة؛ وجاء الفقيه إلى المفقّع وقال: «أخوك مُصاب بمس من الجن، الله يهدي من ضل؛ يقودك كالبهيمة، وأنت من أعيان جماعتك؛ مكانك لا يخلو من الزوار، وجمر شيشتك لا ينطفئ»، فقال بتأثر: «صدقت يا إمامنا الطيب، والعلاج عندي»، ومدّ له "الليّ"، وقال: «خذ لك جرعة تعدّل مزاجك المتعكر».
اشتد الخلاف، وظهرت العيوب، ويا دافع البلاء، كادوا أن يفتكوا ببعضهم البعض؛ وأقبل الخال ليصلح بين الأخوين المتنازعين؛ فتحاربوا به وتسببوا له بالأذى؛ وقال المفقّع بحدة: «يا خال، كلامك يشبه كلام النساء، وأنا وأخي سنتصالح مهما طال الزمن، وابتعد عن طريقنا، وإلا سأجعلك أسوأ حالًا»، التفت الخال إلى أخته بغضب وقال: «هل ستردين على ولدك أم ستتركينا هكذا؟»، فقال المفقّع بازدراء: «يا خال، اترك التمسكن، من الذي دعاك لتشريفنا في هذا الصباح الباكر؟»، فقال الخال بغضب: «لقد بحثت عن مكانتي ووجدتها، ومن حضر بدون دعوة سيجلس بدون احترام».